بوعشرين: لنتعلم من التراجيديا الفرنسية

22 نوفمبر 2015 - 12:44 ص

النقاش العمومي الدائر اليوم في فرنسا حول الإرهاب، وحول السياسة الخارجية والأمنية والثقافية والتعليمية المتبعة في البلاد، نقاش يستحق المتابعة من قبل دول الجنوب، ومن قبل المغاربة بالتحديد، لفائدته وعمقه واختلاف توجهاته، خاصة بالنسبة إلينا في المغرب الذي اكتوى بنار الإرهاب غير ما مرة، دون أن نكون قادرين على إنتاج نقاش عمومي في مستوى الخطر الذي يمثله الدواعش الذين يشكلون كتيبة من 2000 عنصر يقاتلون الآن مع البغدادي في الرقة والموصل، أو الذئاب المنفردة المزروعة بيننا، والتي تنتظر ساعة الصفر لتنقض على الأهداف السهلة.
تحليلات كثيرة من منطلقات عديدة تسبح في الفضاء الفرنسي الواقعي والافتراضي، في التلفزات والصحف والمجلات، أو في مواقع النيت، وفي البرلمان والمجتمع المدني.. بعد إدانة الإرهاب واستنكار البربرية، انطلق التحليل والنقاش والنقد والاعتراض، وحتى نظرية المؤامرة وجدت لها مكانا في بلاد تعتز بأنها أرض حرية التعبير والحق في الاختلاف، وواجب احترام هذا الاختلاف مادام لا يعتدي على حق الآخرين في التعبير عن آرائهم.
يمكن أن ألخص النقاشات العمومية في ثلاثة اتجاهات كبرى تقسم الرأي العام الفرنسي اليوم حول أفضل السبل للرد على داعش وغزوتها البربرية.
هناك اتجاه عقلاني يقول إن هجمات 13 نونبر كانت تستهدف نمط العيش الفرنسي، وتستهدف تعايش الفرنسيين، مسلمين ومسيحيين ويهودا وملحدين وبوذيين، على أرض واحدة هي الجمهورية التي لا تنظر إلى لون أو ديانة أو عرق أو لغة الفرنسي الذي يعيش فوقها، ولهذا، فإن أفضل رد على الإرهاب هو التشبث بالنموذج الفرنسي الذي تحسد عليه باريس عاصمة الفرح والفن والسياحة والحرية… وأن البلاد أمام تحد كبير، والجواب من ثلاث نقاط:
أولا: يجب عدم الانجرار إلى الحرب البعيدة خارج الحدود من أجل الانتقام من داعش على نمط انتقام بوش من القاعدة في أفغانستان، والأفضل إشراك الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي وأمريكا في البحث عن حلول سياسية أولا، وعسكرية ثانيا، للأزمة السورية والعراقية، أما أن تذهب فرنسا للحرب في الرقة والموصل فهذا فخ لن تخرج منه منتصرة أبدا…
ثانيا: يجب على فرنسا أن تحمي قيم الجمهورية (الحرية، المساواة، الإخاء)، وأن تحمي التضامن بين كل أبنائها مهما كانت ديانتهم وأصولهم وأعراقهم. يجب ألا يرى الفرنسيون في كل شاب من الضواحي الباريسية مشروع إرهابي. أصلا، هناك مشاكل اندماج كبرى لم ينجح النموذج الفرنسي في تحقيقها مع أبنائه حتى قبل أحداث باريس، لهذا لا داعي لتعقيد الأمر أكثر، وتوسيع دائرة المرشحين لكي يصيروا منبوذين ومن ثم إرهابيين…
ثالثا: هذه المقاربة لا تستبعد تطوير أجهزة الأمن، وتقوية وسائل عملها وتدريبها على المخاطر الجديدة، لكن تحت مظلة القانون، وتحت يافطة «الشرطي الديمقراطي»، والمخبر الذي يشتغل تحت مراقبة القانون والقضاء واحترام الحريات. التحدي اليوم هو كيف يحافظ الفرنسي على حياته دون أن يخسر حريته، وكيف تعيش فرنسا آمنة وحرة في الوقت ذاته، أما إذا ضحت بالحرية لربح الأمن فإنها تخسر الاثنين معا.
الاتجاه الثاني هو اتجاه يميني متعصب.. بمجرد مرور ساعات على مجزرة باريس حتى خرج يدعو إلى وصفة واحدة لمكافحة الإرهاب.. وصفة كانت جاهزة حتى قبل سقوط 132 ضحية برصاص داعش، وتخطيط أباعوض مساء 13 نونبر: تحميل المسلمين والإسلام مسؤولية تغذية الفكر الجهادي العنيف، ومن ثمة الدعوة إلى غلق المساجد بدعوى أنها أماكن تحرض على الإرهاب، وبعدها طرد المهاجرين، وإسقاط الجنسية الفرنسية عن أبناء فرنسا الذين ولدوا وتعلموا فوق أرضها بدعوى أنهم «مارقون» لا يستحقون العيش فوق الأرض الفرنسية العلمانية التي تقدس الحياة، في حين أن المسلمين يقدسون الموت! ولهذا، فإن دستور الجمهورية الفرنسية يجب أن يتغير ليسمح بتقييد حرية تنقل الفرنسيين وإسقاط الجنسية عن مكتسبيها، وأن القوانين يجب أن تتغير لتسمح للأجهزة الأمنية باستباق العمليات الإرهابية قبل حدوثها…
الاتجاه الثالث وسطي بين الاتجاهين، وهو الذي سارت عليه الحكومة الفرنسية والرئيس هولاند الذي أعلن، منذ الساعات الأولى، أن فرنسا في حالة حرب، وهو ما يعني أن البلاد تحتاج إلى إعلان حالة الطوارئ، وتعليق العمل بالقانون، وإطلاق يد الأجهزة الأمنية للبحث بكل السبل عن الإرهابيين، ومراقبة الحدود والتحكم في حركة الدخول والخروج من فرنسا، ثم أعقب ذلك إعلان النية لتغيير الدستور وقوانين مكافحة الإرهاب، والزيادة في إعداد الأجهزة الأمنية والموارد والتكنولوجيا الموجودة بين يديها، كما بعث هولاند حاملات الطائرات شارل دوغول إلى الشرق الأوسط لتكثيف الحملات الجوية على معاقل داعش في سوريا دون الإعلان عن نزول بري، وفي الوقت نفسه أعلن هولاند وحكومته أن التعايش الفرنسي والوحدة الوطنية بين كل الفرنسيين سلاح قوي لمحاربة الإرهاب، وأن الاعتداء على المسلمين خط أحمر… ثم ظهر هولاند أكثر من مرة وإلى جانبه وزيرة التعليم الفرنسية من أصل مغربي، نجاة بلقاسم، في رسالة واضحة إلى الرأي العام للتفريق بين مكافحة الإرهاب والفرنسيين من أصل مغربي أو عربي.
الأمور مازالت تتفاعل، ولا أحد يملك برنامجا أو رؤية أو تصورا لعلاج الوضع ما بعد الصدمة، لكن النقاش مفتوح، والعقول تشتغل، والمجتمع يتفاعل، وكل الاحتمالات واردة، لكن صوت العقل حاضر، حتى وإن كان غير مؤثر لوحده.

الجزيرة24-مُتابعة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *